الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)} {عَظِيماً * سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الاعراب شَغَلَتْنَآ أموالنا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ} لمَّا حَذر من النكث ورغَّب في الوفاء أتبع ذلك بذكر التخلف عن الانضمام إلى جيش النبي صلى الله عليه وسلم حين الخروج إلى عمرة الحديبية وهو ما فعله الأعراب الذين كانوا نازلين حول المدينة وهم ست قبائل: غفار ومُزْينة وجُهينة وأشْجَع وأسْلَمَ والدِّيل بعد أن بايعوه على الخروج معه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى العمرة استنفر مَن حول المدينة منهم ليخرجوا معه فيرهبه أهل مكة فلا يصدّوه عن عمرته فتثاقل أكثرهم عن الخروج معه. وكان من أهل البيعة زيدُ بن خالد الجهني من جهينة وخرج معَ النبي صلى الله عليه وسلم من أسْلم مائةُ رجل منهم مِرْدَاس بن مالك الأسلمي والدُ عبَّاس الشاعر وعبدُ الله بن أبي أوفى وزاهرُ بن الأسود، وأهبانُ بضم الهمزة بنُ أوس، وسلَمةُ بن الأكْوَع الأسلمي، ومن غفار خُفَافُ بضم الخاء المعجمة بن أيْمَاء بفتح الهمزة بعدها تحتية ساكنة، ومن مزينة عَائذ بن عَمرو. وتخلف عن الخروج معه معظمهم وكانوا يومئذٍ لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ولكنهم لم يكونوا منافقين، وأعَدّوا للمعذرة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شغلتهم أموالهم وأهلوهم، فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بما بيتوه في قلوبهم وفضح أمرهم من قَبْللِ أن يعتذروا. وهذه من معجزات القرآن بالأخبار التي قبل وقوعه. فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لمناسبة ذكر الإيفاء والنكث، فكُمل بذكر من تخلفوا عن الداعي للعهد. والمعنى: أنهم يقولون ذلك عند مرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معتذرين كاذبين في اعتذارهم. والمخلّفون بفتح اللام هم الذين تخلّفوا. وأطلق عليهم المخلفون أي غيرهم خلفهم وراءه، أي تركهم خلفه، وليس ذلك بمقتض أنهم مأذون لهم بل المخلف هو المتروك مطلقاً. يقال: خلفنا فلاناً، إذا مَرّوا به وتركوه لأنهم اعتذروا من قبل خُروج النبي صلى الله عليه وسلم فعذرهم بخلاف الأعراب فإنهم تخلف أكثرهم بعد أن استُنفروا ولم يعتذروا حينئذٍ. والأموال: الإبل. وأهلون: جمع أهل على غير قياس لأنه غير مستوفي لشروط الجمع بالواو والنون أو الياء والنون، فعُدّ مما ألحق بجمع المذكر السالم. ومعنى فاستغفر لنا: اسألْ لنا المغفرة من الله إذ كانوا مؤمنين فهو طلب حقيقي لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم ظنوا أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يمحو ما أضمروه من النكث وذهلوا عن علم الله بما أضمروه كدأب أهل الجهالة فقد قتل اليهود زكرياء مخافة أن تصدر منه دعوة عليهم حين قتلوا ابنه يحيى ولذلك عقب قولهم هنا بقوله تعالى: {بل كان الله بما تعملون خبيراً} الآية. وجملة {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} في موضع الحال. ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة {سيقول لك المخلفون}. والمعنى: أنهم كاذبون فيما زعموه من الاعتذار، وإنما كان تخلفهم لظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد قتال أهل مكة أو أن أهل مكة مقاتلوه لا محالة وأن الجيش الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون أن يغلبوا أهل مكة، فقد روي أنهم قالوا: يذهب إلى قوم غزَوْهُ في عُقر داره بالمدينة يعنون غزوة الأحزاب وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة وذلك من ضعف يقينهم. {قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ}. أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما فيه ردّ أمرهم إلى الله ليُعلمهم أن استغفاره الله لهم لا يُكره الله على المغفرة بل الله يفعل ما يشاء إذا أراده فإن كان أراد بهم نفعاً نفعهم وإن كان أراد بهم ضَرا ضرهم فما كان من النصح لأنفسهم أن يتورطوا فيما لا يرضي الله ثم يستغفرونه. فلعله لا يغفر لهم، فالغرض من هذا تخويفهم من عقاب ذنبهم إذ تخلفوا عن نفير النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا في الاعتذار ليُكثروا من التوبة وتدارك الممكن كما دل عليه قوله تعالى بعده {قل للمخلفين من الأعراب ستُدعون إلى قوم} [الفتح: 16] الآية. فمعنى {إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً} هنا الإرادة التي جرت على وفق علمه تعالى من إعطائه النفع إياهم أو إصابته بضرّ وفي هذا الكلام توجيه بأن تخلّفهم سبب في حرمانهم من فضيلة شهود بيعة الرضوان وفي حرمانهم من شهود غزوة خيبر بنهيه عن حضورهم فيها. ومعنى الملك هنا: القدرة والاستطاعة، أي لا يقدر أحد أن يغير ما أراده الله وتقدم نظير هذا التركيب في قوله تعالى: {قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أنْ يُهلك المسيحَ ابن مريم} في سورة العقود (17). والغالب في مثل هذا أن يكون لنفي القدرة على تحويل الشر خيراً كقوله: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً} [المائدة: 41]. فكان الجري على ظاهر الاستعمال مقتضياً الاقتصار على نفي أن يملك أحد لهم شيئاً إذا أراد الله ضرهم دون زيادة أو أرادَ بكم نفعاً، فتوجه هذه الزيادة أنها لقصد التتميم والاستيعاب، ونظيرُه {قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رَحمة} في سورة الأحزاب (17). وقد مضى قريب من هذا في قوله تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله} في سورة الأعراف (188) فراجعه. وقرأ الجمهور ضَرا} بفتح الضاد، وقرأه حمزة والكسائي بضمها وهما بمعنى، وهو مصدر فيجوز أن يكون هنا مرادا به معنى المصدر، أي إن أراد أن يضركم أو ينفعكم. ويجوز أن يكون بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق، أي إن أراد بكم ما يُضركم وما ينفعكم. ومعنى تعلق {أراد} به أنه بمعنى أراد إيصال ما يضركم أو ما ينفعكم. وهذا الجواب لا عِدة فيه من الله بأن يغفر لهم إذ المقصود تركهم في حالة وَجَل ليستكثروا من فِعل الحسنات. وقُصدت مفاتحتهم بهذا الإبهام لإلقاء الوجل في قلوبهم أن يُغفر لهم ثم سيتبعه بقوله: {ولله ملك السماوات والأرض} [آل عمران: 189] الآية الذي هو أقرب إلى الإطماع. و {بل} في قوله: {بل كان الله بما تعملون خبيرا} إضراب لإبطال قولهم {شغلتنا أموالُنا وأهلونا}. وبه يزداد مضمون قوله: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} تقريراً لأنه يتضمن إبطالاً لعذرهم، ومن معنى الإبطال يحصل بيان الإجمال الذي في قوله: {كان الله بما تعملون خبيراً} إذ يفيد أنه خبير بكذبهم في الاعتذار فلذلك أبطل اعتذارهم بحرف الإبطال. وتقديم {بما تعملون} على متعلَّقه لقصد الاهتمام بذكر عملهم هذا. وما صْدَق {ما تعملون} ما اعتقدوه وما ماهوا به من أسباب تخلفهم عن نفير الرسول وكثيراً ما سمّى القرآن الاعتقاد عملاً. وفي قوله: {وكان بما تعملون خبيراً} تهديد ووعيد.
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)} هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {بل كان الله بما تعملون خبيرا} [الفتح: 11]، أي خبيراً بما علمتم، ومنه ظنكم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون. وأعيد حرف الإبطال زيادة لتحقيق معنى البدلية كما يكرر العامل في المبدل منه والانقلاب: الرجوع إلى المأوى. و {أنْ} مخففة من (أنَّ) المشددة واسمها ضمير الشأن وسدّ المصدر مسدّ مفعولي {ظننتم}، وجيء بحرف {لن} المفيد استمرار النفي. وأكد بقوله: {أبداً} لأن ظنهم كان قوياً. والتزيين: التحسين، وهو كناية عن قبول ذلك وإنما جعل ذلك الظن مزيناً في اعتقادهم لأنهم لم يفرضوا غيره من الاحتمال، وهو أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم سالماً. وهكذا شأن العقول الواهية والنفوسُ الهاوية أن لا تأخذ من الصور التي تتصور بها الحوادث إلا الصورةَ التي تلوح لها في بادئ الرأي. وإنما تلوح لها أول شيء لأنها الصورة المحبوبة ثم يعتريها التزيين في العقل فتلهو عن فرض غيرها فلا تستعد لحَدثانه، ولذلك قيل: حبك الشيء يُعمي ويُصم. كانوا يقولون بين أقوالهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكَلَة بفتحات ثلاث رأس كناية عن القلة، أي يشبعهم رأس بعير لا يرجعون، أي هم قليل بالنسبة لقريش والأحابيش وكنانة، ومن في حلفهم. و {ظن السَّوء} أعم من ظنهم أن لا يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، أي ظننتم ظن السوء بالدين وبمن بقي من الموقنين لأنهم جزموا باستئصال أهل الحديبيّة وأنّ المشركين ينتصرون ثم يغزون المدينة بمن ينضمّ إليهم من القبائل فيُسقط في أيدي المؤمنين ويرتدون عن الدين فذلك ظن السوء. والسَّوء بفتح السين تقدم آنفاً في قوله: {الظانين بالله ظن السوء} [الفتح: 6]. والبُور: مصدر كالهُلْك بناءً ومعنى، ومثله البوار بالفتح كالهلاك ولذلك وقع وصفاً بالإفراد وموصوفه في معنى الجمع. والمراد الهلاك المعنوي، وهو عدم الخير والنفع في الدين والآخرة نظير قوله تعالى: {يُهلكون أنفسهم} في سورة براءة (42). وإقحام كلمة قوماً} بين {كنتم} و{بُوراً} لإفادة أن البوار صار من مقوّمات قوميتهم لشدة تلبسه بجميع أفرادهم كما تقدم عند قوله تعالى {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164). وقوله: {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} في سورة يونس (101).
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)} جملة معترضة بين أجزاء القول المأمور به في قوله: {قل فمن يملك لكم من الله شيئاً} [الفتح: 11] الآيات وقوله: {ولله ملك السماوات والأرض} [آل عمران: 189] وهذا الاعتراض للتحذير من استدراجهم أنفسهم في مدارج الشك في إصابة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفضي بهم إلى دركات الكفر بعد الإيمان إذ كان تخلفهم عن الخروج معه وما عللوا به تثاقلهم في نفوسهم وإظهار عذر مكذوب أضمروا خلافه، كل ذلك حوماً حول حمى الشك يوشكون أن يقعوا فيه. و {مَن} شرطية. وإظهار لفظ الكافرين في مقام أن يقال: اعتدنا لهم سعيراً، لزيادة تقرير معنى {من لم يؤمن بالله ورسوله}. والسعير: النار المسعرة وهو من أسماء جهنم.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)} عطف على جملة {فمن يملك لكم من الله شيئاً} [الفتح: 11] فهو من أجزاء القول، وهذا انتقال من التخويف الذي أوهمه {فمن يملك لكم من الله شيئا} إلى إطماعهم بالمغفرة التي سألوها، ولذلك قدم الضر على النفع في الآية الأولى فقيل {إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا} [الفتح: 11] ليكون احتمال إرادة الضر بهم أسبق في نفوسهم. وقدمت المغفرة هنا بقوله: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ليتقرر معنى الإطماع في نفوسهم فيبتدروا إلى استدراك ما فاتهم. وهذا تمهيد لوعدهم الآتي في قوله: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد إلى قوله: {فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً} [الفتح: 16]. وزاد رجاءَ المغفرة تأكيداً بقوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} أي الرحمة والمغفرة أقرب من العقاب، وللأمرين مواضع ومراتب في القرب والبعد، والنوايا والعوارض، وقيمة الحسنات والسيئات، قد أحاط الله بها وقدرها تقديراً. ولفظ {من يشاء} في الموضعين إجمال للمشيئة وأسبابها وقد بينت غير مرة في تضاعيف القرآن والسنة ومن ذلك قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} هذا استئناف ثان بعد قوله: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا} [الفتح: 11]. وهو أيضاً إعلام للنبيء صلى الله عليه وسلم بما سيقوله المخلفون عن الحديبيّة يتعلّق بتخلّفهم عن الحديبية وعذرهم الكاذب، وأنهم سيندمون على تخلفهم حين يرون اجتناء أهل الحديبيّة ثمرة غزوهم، ويتضمن تأكيد تكذيبهم في اعتذارهم عن التخلف بأنهم حين يعلمون أن هنالك مغانم من قتال غير شديد يحرصون على الخروج ولا تشغلهم أموالهم ولا أهاليهم، فلو كان عذرهم حقاً لما حرصوا على الخروج إذا توقعوا المغانم ولأقبلوا على الاشتغال بأموالهم وأهليهم. ولكون هذه المقالة صدرت منهم عن قريحة ورغبة لم يؤت معها بمجرور {لك} كما أُتي به في قوله: {سيقول لك المخلفون} آنفاً لأن هذا قولُ راغب صادق غير مزوِّر لأجل الترويج على النبي صلى الله عليه وسلم كما علمت ذلك فيما تقدم. واستُغني عن وصفهم بأنهم من الأعراب لأن تعريف {المخلفون} تعريف العهد، أي المخلفون المذكورون. وقوله: {إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها} متعلق ب {سيقول المخلَّفون} وليس هو مقول القول. و{إذا} ظرف للمستقبل، ووقوع فعل المضي بعده دون المضارع مستعار لمعنى التحقيق، و{إذا} قرينة على ذلك لأنها خاصة بالزمن المستقبل. والمراد بالمغانم في قوله: {إذا انطلقتم إلى مغانم}: الخروج إلى غزوة خيبر فأطلق عليها اسم مغانم مجازا لعلاقة الأوْل مثل إطلاق خَمراً في قوله: {إني أرانِيَ أعصر خمراً} [يوسف: 36]. وفي هذا المجاز إيماء إلى أنهم منصورون في غزوتهم. وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجَع من الحديبيّة إلى المدينة أقام شهر ذي الحجة سنة وست وأياماً من محرم سنة سبع ثم خرج إلى غزوة خيبر ورام المخلفون عن الحديبيّة أن يخرجوا معه فمنعهم لأن الله جعلَ غزوة خيبر غنيمة لأهل بيعة الرضوان خاصة إذ وعدهم بفتح قريب. وقوله: {لتأخذوها} ترشيح للمجاز وهو إيماء إلى أن المغانم حاصلة لهم لا محالة. وذلك أن الله أخبر نبيئه صلى الله عليه وسلم أنه وعد أهل الحديبيّة أن يعوضهم عن عدم دخول مكة مغانم خبير. و {مغانم}: جمع مغنم وهو اسم مشتق من غَنم إذا أصاب ما فيه نفع له كأنهم سموه مغنماً باعتبار تشبيه الشيء المغنوم بمكان فيه غنم فصيغ له وزن المَفْعَل. وأشعر قوله: {ذَرُونا} بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيمنعهم من الخروج معه إلى غزو خيبر لأن الله أمره أن لا يُخرج معه إلى خيبر إلا من حضر الحديبيّة، وتقدم في قوله تعالى: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى} في سورة غافر (26). وقوله: نتبعكم} حكاية لمقالتهم وهو يقتضي أنهم قالوا هذه الكلمة استنزالاً لإجابة طلبهم بأن أظهروا أنهم يخرجون إلى غزو خيبر كالأتباع، أي أنهم راضِون بأن يكونوا في مؤخرة الجيش فيكون حظهم في مغانمه ضعيفاً. وتبديل كلام الله: مخالفة وحيه من الأمر والنهي والوعد كرامة للمجاهدين وتأديباً للمخلفين عن الخروج إلى الحديبيّة. فالمراد بكلام الله ما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من وعد أهل الحديبيّة بمغانم خيبر خاصة لهم، وليس المراد بكلام الله هنا القرآن إذ لم ينزل في ذلك قرآن يومئذٍ. وقد أشرك مع أهل الحديبية من ألحق بهم من أهل هجرة الحبشة الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم بوحي. وأما ما روي عن عبد الله بن زيد بن أسلم أن المراد بكلام الله قوله تعالى: {فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً} [التوبة: 83] فقد رده ابن عطية بأنها نزلت بعد هذه السورة وهؤلاء المخلفون لم يمنعوا منعاً مؤبداً بل منعوا من المشاركة في غزوة خيبر لئلا يشاركوا في مغانمها فلا يلاقي قوله فيها {لن تخرجوا معي أبداً} وينافي قوله في هذه السورة {قُل للمخلَّفين من الأعراب ستُدَعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم} [الفتح: 16] الآية، فإنها نزلت في غزوة تبوك وهي بعد الحديبيّة بثلاث سنين. وجملة {يريدون أن يُبدِّلوا كلام الله} في موضع الحال. والإرادة في قوله: {يُريدون أن يُبدلوا كلام الله} على حقيقتها لأنهم سيعلمون حينئذٍ يقولون: {ذرونا نتبعكم} أن الله أوحَى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بمنعهم من المشاركة في فتح خيبر كما دل عليه تنازلهم في قولهم: {ذرونا نتبعكم} فهم يريدون حينئذٍ أن يغيروا ما أمر الله به رسوله حين يقولون {ذرونا نتبعكم} إذ اتباع الجيش والخروج في أوله سواء في المقصود من الخروج. وقرأ الجمهور {كلام الله}. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {كَلِم الله} اسم جمع كَلمة. وجيء ب {لن} المفيدة تأكيد النفي لقطع أطماعهم في الإذن لهم باتباع الجيش الخارج إلى خيبر ولذلك حذف متعلق {تتبعونا} للعلم به. و{مِن قبلُ} تقديره: من قبل طلبكم الذي تطلبونه وقد أخبر الله عنهم بما سيقولونه إذ قال: {فسيقولون بل تحسدوننا}، وقد قالوا ذلك بعد نحو شهر ونصف فلما سمع المسلمون المتأهبون للخروج إلى خيبر مقالتهم قالوا: قد أخبرنا الله في الحديبية بأنهم سيقولون هذا. و {بل} هنا للإضراب عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم {لن تتبعونا} وهو إضراب إبطال نشأ عن فورة الغضب المخلوط بالجهالة وسوء النظر، أي ليس بكم الحفاظ على أمر الله، بل بكم أن لا نقاسمكم في المغانم حسداً لنا على ما نصيب من المغانم. والحسد: كراهية أن ينال غيرُك خيراً معيَّناً أو مطلقاً سواء كان مع تمني انتقاله إليك أو بدون ذلك، فالحسد هنا أريد به الحرص على الانفراد بالمغانم وكراهية المشاركة فيها لئلا ينقص سهام الكارهين. وتقدم الحسد عند قوله تعالى: {بَغياً أن ينزل الله من فضله} [البقرة: 90] وعند قوله: {حسداً من عند أنفسهم} [البقرة: 109] كلاهما في سورة البقرة. وضمير الرفع مراد به أهل الحديبية، نسبوهم إلى الحسد لأنهم ظنوا أن الجواب بمنعهم لعدم رضى أهل الحديبية بمشاركتهم في المغانم. ولا يظن بهم أن يريدوا بذلك الضميرِ شمولَ النبي صلى الله عليه وسلم لأن المخلفين كانوا مؤمنين لا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بالحسد ولذلك أبطل الله كلامهم بالإضراب الإبطالي فقال: {بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً}، أي ليس قولك لهم ذلك لقصد الاستبشار بالمغانم لأهل الحديبية ولكنه أمر الله وحقه لأهل الحديبية وتأديب للمخلفين ليكونوا عبرة لغيرهم فيما يأتي وهم ظنوه تمالؤًا من جيش الحديبية لأنهم لم يفهموا حكمته وسببهم. وإنّما نفى الله عنهم الفهم دون الإيمان لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم كانوا جاهلين بشرائع الإسلام ونظمه. وأفاد قوله: {لا يفقهون} انتفاء الفهم عنهم لأن الفعل في سياق النفي كالنكرة في سياق النفي يعم، فلذلك استثنى منه بقوله: {إلا قليلاً} أي إلا فهماً قليلاً وإنما قَلّلَهُ لكون فهمهم مقتصراً على الأمور الواضحة من العاديات لا ينفذ إلى المهمات ودقائق المعاني، ومن ذلك ظنهم حرمانهم من الالتحاق بجيش غزوة خيبر منبعثاً على الحسد. وقد جروا في ظنهم هذا على المعروف من أهل الأنظار القاصرة والنفوس الضئيلة من التوسم في أعمال أهل الكمال بمنظار ما يجدون من دواعي أعمالهم وأعمال خلطائهم. و {قليلاً} وصف للمستثنى المحذوف، والتقدير: إلا فقهاً قليلاً.
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} انتقال إلى طمأنة المخلفين بأنهم سينالون مغانم في غزوات آتية ليعلموا أن حرمانهم من الخروج إلى خيبر مع جيش الإسلام ليس لانسلاخ الإسلام عنهم ولكنه لِحكمة نوط المسبّبات بأسبابها على طريقة حكمة الشريعة فهو حرمان خاص بوقعة معينة كما تقدم آنفاً، وأنهم سيدعون بعد ذلك إلى قتال قوم كافرين كما تُدعى طوائف المسلمين، فذِكر هذا في هذا المقام إدخال للمسرة بعد الحزن ليزيل عنهم انكسار خواطرهم من جراء الحرمان. وفي هذه البشارة فرصة لهم ليستدركوا ما جنوه من التخلف عن الحديبية وكل ذلك دال على أنهم لم ينسلخوا عن الإيمان، ألا ترى أن الله لم يعامل المنافقين المبطنين للكفر بمثل هذه المعاملة في قوله: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تَخْرجُوا معي أبداً ولن تقاتلوا معِي عدوّاً إنكم رضِيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} [التوبة: 83]. وكرر وصف من {الأعراب} هنا ليظهر أن هذه المقالة قصد بها الذين نزل فيهم قوله: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا} [الفتح: 11] فلا يتوهم السامعون أن المعنى بالمخلفين كل من يقع منه التخلف. وأسند {تدعون} إلى المجهول لأنّ الغرض الأمر بامتثال الدّاعي وهو وليّ أمر المسلمين بقرينة قوله بعد في تذييله {ومن يطع الله ورسوله} [الفتح: 17] ودعوة خلفاء الرّسول صلى الله عليه وسلم من بعده ترجع إلى دعوة الله ورسوله لقوله: (ومن أطاع أمري فقد أطاعني). وعدي فعل {ستدعون} بحرف {إلى} لإفادة أنها مضمنة معنى المشي، وهذا فرق دقيق بين تعدية فعل الدعوة بحرف {إلى} وبين تعديته باللام نحو قولكَ: دعوت فلاناً لما نَابني، قال طرفة: وإن أُدْع للجُلَّى أكن من حُماتِهَا *** وقد يتعاقب الاستعمالان بضرببٍ من المجاز والتسامح. والقوم أولو البأس الشديد يتعين أنهم قوم من العرب لأن قوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} يشعر بأن القتال لا يرفع عنهم إلا إذا أسلموا، وإنما يكون هذا حُكماً في قتال مشركي العرب إذ لا تقبل منهم الجزية. فيجوز أن يكون المراد هوازنَ وثقيف. وهذا مروي عن سعيد بن جُبير، وعكرمة وقتادة، وذلك غزوة حنين وهي بَعد غزوة خيبر، وأما فتح مكة فلم يكن فيه قتال. وعن الزهري ومقاتل: أنهم أهل الردة لأنهم من قبائل العرب المعروفة بالبأس، وكان ذلك صدرَ خلافة أبي بكر الصديق. وعن رافع بن خديج أنه قال: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية {ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد} فلا نعلم من هم حتى دَعَانَا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم، وعن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، والحسن هم فارس والروم. وجملة {تقاتلونهم أو يسلمون} إمّا حال من ضمير {تدعون}، وإما بدل اشتمال من مضمون {تدعون}. و {أو} للترديد بين الأمرين والتنويع في حالة تُدعون، أي تدعون إلى قتالهم وإسلامهم، وذلك يستلزم الإمعان في مقاتلتهم والاستمرار فيها ما لم يسلموا، فبذلك كان {أو يسلمون} حالاً معطوفاً على جملة {تقاتلونهم} وهو حال من ضمير {تدعون}. وقوله: {وإن تتولوا كما توليتُم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً} تَعبير بالتوالي الذي مضى، وتحذير من ارتكاب مثله في مثل هذه الدعوة بأنه تَوَلَّ يوقع في الإثم لأنه تولَ عن دعوة إلى واجب وهو القتال للجهاد. فالتشبيه في قوله: {كما توليتم من قبل} تشبيه في مطلق التولّي لقصد التشويه وليس تشبيهاً فيما يترتب على ذلك التولي.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} جملة معترضة بين جملة {وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً} [الفتح: 16] وبين جملة {ومن يطع الله ورسوله} الآية قصد منها نفي الوعيد عن أصحاب الضَّرارة تنصيصاً على العذر للعناية بحكم التولّي والتحذير منه. وجملة {من يطع الله} الخ تذييل لجملة {فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً} [الفتح: 16] الآية لما تضمنته من إيتاء الأجر لكل مطيع من المخاطبين وغيرهم، والتعذيب لكل متولَ كذلك، مع ما في جملة {ومن يطع اللَّه} من بيان أن الأجر هو إدخال الجنات، وهو يفيد بطريق المقابلة أن التعذيب الأليم بإدخالهم جهنم. وقرأ نافع وابن عامر {ندخلْه} و{نعذبْه} بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وقرأ الجمهور {يدخله} بالياء التحتية جرياً على أسلوب الغيبة بعود الضمير إلى اسم الجلالة.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)} عود إلى تفصيل ما جازى الله به أصحاب بيعة الرضوان المتقدم إجماله في قوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10]، فإن كون بيعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر بيعة لله تعالى أوْمأ إلى أن لهم بتلك المبايعة مكانة رفيعة من خير الدنيا والآخرة، فلما قطع الاسترسال في ذلك بما كان تحذيراً من النكث وترغيباً في الوفاء، بمناسبة التضاد وذكر ما هو وسط بين الحالين وهو حال المخلَّفين، وإبطال اعتذارهم وكشف طويتهم، وإقصائهم عن الخير الذي أعده الله للمبايعين وأرجائهم إلى خير يسنح من بعدُ إن هم صدقوا التوبة وأخلصوا النية. فقد أنال الله المبايعين رضوانَه وهو أعظم خير في الدنيا والآخرة قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72] والشهادة لهم بإخلاص النية، وإنزاله السكينة قلوبهم ووعدهم بثواب فتح قريب ومغانم كثيرة. وفي قوله: {عن المؤمنين إذ يبايعونك} إيذان بأن من لم يبايع ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس حينئذٍ بمؤمن وهو تعريض بالجدّ بن قيس إذ كان يومئذٍ منافقاً ثم حَسن إسلامه. وقد دعيت هذه البيعة بيعةَ الرضوان من قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}. و{إذ يبايعونك} ظرف متعلّق ب {رضي}، وفي تعليق هذا الظرف بفعل الرضى ما يفهم أن الرضى مسبب عن مفاد ذلك الظرف الخاص بما أضيف هو إليه، مع ما يعطيه توقيت الرضى بالظرف المذكور من تعجيل حصول الرضى بحدثان ذلك الوقت، ومع ما في جعل الجملة المضاف إليها الظرفُ فِعليةً مضارعيّةً من حصول الرضى قبل انقضاء الفعل بل في حال تجدده. فالمضارع في قوله {يبايعونك} مستعمل في الزمان الماضي لاستحضار حالة المبايعة الجليلة، وكون الرضى حصل عند تجديد المبايعة ولم ينتظر به تمامها، فقد علمت أن السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية. والتعريف في {الشجرة} تعريف العهد وهي: الشجرة التي عهدها أهل البيعة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلها، وهي شجرة من شجر السَّمُر بفتح السين المهملة وضم الميم وهو شجر الطلح. وقد تقدم أن البيعة كانت لما أُرجف بقتل عثمان بن عفان بمكة فعن سلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر، يزيدُ أحدهما على الآخر «بينما نحن قائلون يوم الحديبية وقد تفرق الناس في ظلال الشجر إذ نادى عمر بن الخطاب: أيّها الناس البيعةَ البيعةَ، نَزَل روحُ القدُس فاخرُجوا على اسم الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي دعا الناس إلى البيعة فثار الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه كلهم إلا الجدَّ بن قيس». وعن جابر بن عبد الله بعدَ أن عمي لو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة. وتواتر بين المسلمين علم مكان الشجرة بصلاة الناس عند مكانها. وعن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل أي في عمرة القضية نسيناها فلم نقدر عليها وعن طارق بن عبد الرحمان قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسولُ الله بيعة الرضوان. فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم أفأنتم أعلم». والمراد بقول طارق: ما هذا المسجد: مكانُ السجود، أي الصلاة، وليس المراد البيت الذي يبني للصلاة لأن البناء على موضع الشجرة وقع بعد ذلك الزمن فهذه الشجرة كانت معروفة للمسلمين وكانوا إذا مروا بها يصلون عندها تيمنا بها إلى أن كانت خلافة عمر فأمر بقطعها خشية أن تكون كذاتتِ أنواط التي كانت في الجاهلية، ولا معارضة بين ما فعله المسلمون وبين ما رواه سعيد بن المسيب عن أبيه أنه وبعض أصحابه نسوا مكانها لأن الناس متفاوتون في توسُّم الأمكنة واقتفاء الآثار. والمروي أن الذي بنى مسجداً على مكان الشجرة أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي ولكن في المسجد المذكور حجر مكتوب فيه «أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببناء هذا المسجد مسجد البيعة وأنه بني سنة أربع وأربعين ومائتين، وهي توافق مدة المتوكّل جعفر بن المعتصم وقد تخرب فجدده المستنصر العباسي سنة 629 ثم جدده السلطان محمود خان العثماني سنة 1254 وهو قائم إلى اليوم. وذكر {تحت الشجرة} لاستحضار تلك الصورة تنويهاً بالمكان فإن لذكر مواضع الحوادث وأزمانها معاني تزيد السامع تصوراً ولما في تلك الحوادث من ذكرى مثل مواقع الحروب والحوادث كقول عبد الله بن عباس «ويوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه» الحديث. ومواقع المصائب وأيامها. و {إذ} ظرف يتعلق بفعل {رضي}، أي رضي الله عنهم في ذلك الحين. وهذا رضى خاص، أي تعلّق رضى الله تعالى عنهم بتلك الحالة. والفاء في قوله: {فعلم ما في قلوبهم} ليست للتعقيب لأن علم الله بما في قلوبهم ليس عقب رضاه عنهم ولا عقب وقوع بيعتهم فتعين أن تكون فاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر بعدها. والتقدير: فلما بايعوك علم ما في قلوبهم من الكآبة، ويجوز أن تكون الفاء لتفريع الأخبار بأن الله علم ما في قلوبهم بعد الإخبار برضى الله عنهم لما في الإخبار بعلمه ما في قلوبهم من إظهار عنايته بهم. ويجوز أن يكون المقصود من التفريع قوله: {فأنزل السكينة عليهم} ويكون قوله: {فعلم ما في قلوبهم} توطئة له على وجه الاعتراض. والمعنى: لقد رضي الله عن المؤمنين من أجل مبايعتهم على نصرك فلما بايعوا وتحفزوا لقتال المشركين ووقع الصلح حصلت لهم كآبة في نفوسهم فأعلمهم الله أنه اطلع على ما في قلوبهم من تلك الكآبة، وهذا من علمه الأشياء بعد وقوعها وهو من تعلق علم الله بالحوادث بعد حدوثها، أي علمه بأنها وقعت وهو تعلق حادث مثل التعلقات التنجيزية. والمقصود بإخبارهم بأن الله علم ما حصل في قلوبهم الكآبة عن أنه قَدَر ذلك لهم وشكرهم على حبهم نصر النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل ولذلك رتب عليه قوله: {فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}. والسكينة هنا هي: الطمأنينة والثقة بتحقيق ما وعدهم الله من الفتح والارتياض على ترقبه دون حسرة فترتب على علمه ما في قلوبهم إنزاله السكينة عليهم، أي على قلوبهم فعبر بضميرهم عوضاً عن ضمير {قلوبهم} لأن قلوبهم هي نفوسهم. وعطف {أثابهم} على فعل {رضي اللَّه}. ومعنى أثابهم: أعطاهم ثواباً، أي عوضاً، كما يقال في هبة الثواب، أي عوضهم عن المبايعة بفتح قريب. والمراد: أنه وعدهم بثواب هو فتح قريب ومغانم كثيرة، ففعل {أثابهم} مستعمل في المستقبل. وهذا الفتح هو فتح خيبر فإنه كان خاصاً بأهل الحديبية وكان قريباً من يوم البيعة بنحو شهر ونصف. والمغانم الكثيرة المذكورة هنا هي: مغانم أرض خيبر والأنعام والمتاع والحوائط فوصفت ب {كثيرة} لتعدّد أنواعها وهي أول المغانم التي كانت فيها الحوائط. وفائدة وصف المغانم بجملة {يأخذونها} تحقيق حصول فائدة هذا الوعد لجميع أهل البيعة قبل أن يقع بالفعل ففيه زيادة تحقيق لكون الفتح قريباً وبشارةٌ لهم بأنهم لا يهلك منهم أحد قبل رؤية هذا الفتح. وجملة {وكان اللَّه عزيزاً حكيماً} معترضة، وهي مفيدة تذييل لجملة {وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها} لأن تيسير الفتح لهم وما حصل لهم فيه من المغانم الكثيرة من أثر عزة الله التي لا يتعاصى عليها شيء صعب، ومن أثر حكمته في ترتيب المسببات على أسبابها في حالة ليظن الرائي أنها لا تيسّر فيها أمثالها.
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)} {حَكِيماً * وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ} هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً نشأ عن قوله: {وأثابهم فتحاً قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها} [الفتح: 18، 19] إذ علم أنهُ فتحُ خيبر، فحق لهم ولغيرهم أن يخطر ببالهم أن يترقبوا مغانم أخرى فكان هذا الكلام جواباً لهم، أي لكم مغانم أخرى لا يُحرم منها من تخلفوا عن الحديبية وهي المغانم التي حصلت في الفتوح المستقبلة. فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين تبعاً للخطاب الذي في قوله: {إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18] وليس خاصاً بالذين بايعوا. والوعد بالمغانم الكثيرة واقع في ما سبق نزوله من القرآن وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مما بلغه إلى المسلمين في مقامات دعوته للجهاد. ووصف {مغانم} بجملة {تأخذونها} لتحقيق الوعد. وبناء على ما اخترناه من أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة يكون فعل {فعجّل} مستعملاً في الزمن المستقبل مجازاً تنبيهاً على تحقيق وقوعه، أي سيعجل لكم هذه. وإنما جعل نوالهم غنائم خيبر تعجيلاً، لقرب حصوله من وقت والوعد به. ويحتمل أن يكون تأخّر نزول هذه الآية إلى ما بعد فتح خيبر على أنها تكملة لآية الوعد التي قبلها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها عقبها وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على أول هذه السورة ولكن هذا غير مروي. والإشارة في قوله: {هذه} إلى المغانم في قوله: {ومغانم كثيرة يأخذونها} [الفتح: 19] وأشير إليها على اختلاف الاعتبارين في استعمال فعل {فعجل لكم هذه}. {هذه وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس}. امتنان عليهم بنعمة غفلوا عنها حين حزنوا لوقوع صلح الحديبية وهي نعمة السلم، أي كف أيدي المشركين عنهم فإنهم لو واجهوهم يوم الحديبية بالقتال دون المراجعة في سبب قدومهم لرجع المسلمون بعد القتال متعبين. ولَما تهيأ لهم فتح خيبر، وأنهم لو اقتتلوا مع أهل مكّة لدُحِض في ذلك مؤمنون ومؤمنات كانوا في مكة كما أشار إليه قوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون} [الفتح: 25] الآية. فالمراد ب {الناس}: أهل مكة جرياً على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالباً. وقيل: المراد كف أيدي الأعراب المشركين من بني أسد وغطفان وكانوا أحلافاً ليهود خيبر وجاءوا لنصرتهم لما حاصر المسلمون خيبر فألقى الله في قلوبهم الرعب فنكصوا. وقيل: إن المشركين بعثوا أربعين رجلاً ليصيبوا من المسلمين في الحديبية فأسرهم المسلمون، وهو ما سيجيء في قوله: {وأيْدِيَكم عنهم} [الفتح: 24]. وقيل: كفّ أيدي اليهود عنكم، أي عن أهلكم وذراريكم إذ كانوا يستطيعون أن يهجموا على المدينة في مدة غيبة معظم أهلها في الحديبية، وهذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ {الناس} في غالب مصطلح القرآن. والكف: منع الفاعل من فعل أراده أو شرع فيه، وهو مشتق من اسم الكف التي هي اليد لأن أصل المنع أن يكون دفعاً باليد، ويقال: كف يده عن كذا، إذا منعه من تناوله بيده. وأطلق الكف هنا مجازاً على الصرف، أي قدّر الله كف أيدي الناس عنكم بأن أوجد أسباب صرفهم عن أن يتناولوكم بضر سواء نووه أو لم ينووه، وإطلاق الفعل على تقديره كثير في القرآن حين لا يكون للتعبير عن المعاني الإلهية فعل مناسب له في كلام العرب، فإن اللغة بينت على متعارف الناس مخاطباتهم وطرأت معظم المعاني الإلهية بمجيء القرآن فتغير عن الشأن الإلهي بأقرب الأفعال إلى معناه. {عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صراطا}. الظاهر أن الواو عاطفة وأن ما بعد الواو علة كما تقتضي لام كي فتعين أنه تعليل لشيء مما ذكر قبله في اللفظ أو عطف على تعليل سبقه. فيجوز أن يكون معطوفاً على بعض التعليلات المتقدمة من قوله: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح: 4] أو من قوله: {ليُدخل المؤمنين والمؤمنات جنات} [الفتح: 5] وما بينهما اعتراضاً وهو وإن طال فقد اقتضته التنقلات المتناسبات. والمعنى أن الله أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لمصالح لهم منها ازدياد إيمانهم واستحقاقهم الجنة وتكفير سيئاتهم واستحقاق المنافقين والمشركين العذابَ، ولتكون السكينة آية للمؤمنين، أي عبرة لهم واستدلالاً على لطف الله بهم وعلى أن وعده لا تأويل فيه. ومعنى كون السكينة آيةً أنها سبب آية لأنهم لما نزلت السكينة في قلوبهم اطمأنت نفوسهم فخلصت إلى التدبر والاستدلال فبانت لها آيات الله فتأنيث ضمير الفعل لأن معاده السكينة. ويجوز أن يكون معطوفاً على تعليل محذوف يُثَار من الكلام السابق، حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن في تقديره توفيراً للمعنى. والتقدير: فعجّل لكم هذه لِغايات وحِكم ولتكون آية. فهو من ذكر الخاص بعد العام المقدر. فالتقدير مثلاً: ليحصل التعجيل لكم بنفع عوضاً عما ترقبتموه من منافع قتال المشركين، ولتكون هذه المغانم آية للمؤمنين منكم ومَن يعرِفون بها أنهم من الله بمكان عنايته وأنه مُوففٍ لهم ما وعدهم وضامن لهم نصرهم الموعود كما ضمن لهم المغانم القريبة والنصر القريب. وتلك الآية تزيد المؤمنين قوة إيمان. وضمير {لتكون} على هذه راجع إلى قوله: {هذه} على أنها المعللة. ويجوز أن يكون الضمير للخصال التي دل عليها مجموع قوله: {فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم} فيكون معنى قوله: {ولتكون آية للمؤمنين} لغايات جمة منها ما ذكر آنفاً ومنها سلامة المسلمين في وقت هم أحوج فيه إلى استبقاء قوتهم مِنْهم إلى قتال المشركين ادخاراً للمستقبل. وجعل صاحب «الكشاف» جملة {ولتكون آية للمؤمنين} معترضة، وعليه فالواو اعتراضية غير عاطفة وأن ضمير {لتكون} عائداً إلى المرة من فِعل كَف: أي الكَفة. وعطف عليه {ويهديكم صراطاً مستقيماً} وهو حكمة أخرى، أي ليزول بذلك ما خامركم من الكآبة والحزن فتتجرد نفوسكم لإدراك الخير المحض الذي في أمر الصلح وإحالتكم على الوعد فتوقنوا أن ذلك هو الحق فتزدادوا يقيناً. ويجوز أن يكون فعل {ويهديكم} مستعملاً في معنى الإدامة على الهدى وهو: الإيمان الحاصل لهم من قبل على حد قوله: {يا أيها الذين آمَنواْ آمِنوا} [النساء: 136] على أحد تأويلين.
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)} هذا من عطف الجملة على الجملة فقوله: {أخرى} مبتدأ موصوف بجملة {لم تقدروا عليها} والخبر قوله: {قد أحاط الله بها}. ومجموع الجملة عطف على جملة {وعدكم اللَّه مغانم كثيرة} [الفتح: 20] فلفظ {أخرى} صفة لموصوف محذوف دل عليه {مغانم} الذي في الجملة قبلها، أي هي نوع آخر من المغانم صعبة المنال، ومعنى المغانم يقتضي غانمين فعلم أنها لهم، أي غير التي وعدهم الله بها، أي هذه لم يعدهم الله بها، ولم نجعل {وأخرى} عطفا على قوله {هذه} [الفتح: 20] عطف المفرد على المفرد إذ ليس المراد غنيمة واحدة بل غنائم كثيرة. ومعنى {لم تقدروا عليها}: أنها موصوفة بعَدم قدرتكم عليها، فلما كانت جملة {لم تقدروا عليها} صفة ل {أخرى} لم يقتض مدلول الجملة أنهم حاولوا الحصول عليها فلم يقدروا، وإنّما المعنى: أن صفتها عدم قدرتكم عليها فلم تتعلّق أطماعكم بأخذها. والإحاطة بالهمز: جعل الشيء حائطاً أي حافظاً، فأصل همزته للجعل وصار بالاستعمال قاصراً، ومعناه: احتوى عليه ولم يترك له منصرفاً فول على شدة القدرة عليه قال تعالى: {لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم} [يوسف: 66] أي إلا أن تغلَبوا غلباً لا تستطيعون معه الإتيان به. فالمعنى: أن الله قدَر عليها، أي قدر عليها فجعلها لكم بقرينة قوله قبله {لم تقدروا عليها}. والمعنى: ومغانم أخرى لم تقدروا على نيلها قد قدر الله عليها، أي فأنا لكُمْ إيّاها. وإلا لم يكن لإعلامهم بأن الله قدر على ما لم يقدروا عليه جدوى لأنهم لا يجهلون ذلك، أي أحاط الله بها لأجلكم، وفي معنى الإحاطة إيماء إلى أنها كالشيء المحاط به من جوانبه فلا يفوتهم مكانه، جعلت كالمخبوء لهم. ولذلك ذُيل بقوله: {وكان اللَّه على كل شيء قديراً} إذ هو أمر مقرر في علمهم. فعلم أن الآية أشارت إلى ثلاثة أنواع من المغانم: نوع من مغانم موعودة لهم قريبة الحصول وهي مغانم خيبر، ونوع هو مغانم مرجوة كثيرة غير معين وقت حصولها، ومنها مغانم يوم حنين وما بعده من الغزوات، ونوع هو مغانم عظيمة لا يَخطر ببالهم نوالها قد أعدها الله للمسلمين ولعلها مغانم بلاد الروم وبلاد الفرس وبلاد البربر. وفي الآية إيماء إلى أن هذا النوع الأخير لا يناله جميع المخاطبين لأنه لم يأت في ذكره بضميرهم، وهو الذي تأوله عُمر في عدم قسمة سواد العراق وقرأ قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم} [الحشر: 10].
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} هذا عطف على قوله: {وكف أيدي الناس عنكم} [الفتح: 20] على أن بعضه متعلق بالمعطوف عليه، وبعضه معطوف على المعطوف عليه فما بينهما ليس من الاعتراض. والمقصود من هذا العطف التنبيه على أن كف أيدي الناس عنهم نعمة على المسلمين باستبقاء قوتهم وعدتهم ونشاطهم. وليس الكف لدفع غلبة المشركين إياهم لأن الله قدَّر للمسلمين عاقبة النصر فلو قاتلهم الذين كفروا لهزمهم المسلمون ولم يجدوا نصيراً، أي لم ينتصروا بجمعهم ولا بمن يعينهم. والمراد بالذين كفروا ما أريد بالناس في قوله: {وكف أيدي الناس عنكم}. وكان مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الناس بأن يقال: ولو قاتلوكم، فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أن الكفر هو سبب تولية الإدبار في قتالهم للمسلمين تمهيداً لقوله: {سنة اللَّه التي قد خلت من قبل}. و {الأدبار} منصوب على أنه مفعول ثان لِ {وَلَّوا} ومفعوله الأول محذوف لدلالة ضمير {قاتلكم الذين كفروا} عليه. والتقدير: لولوكم الأدبار. وأل للعهد، أي أدبارهم، ولذلك يقول كثير من النحاة إن أل في مثله عوض عن المضاف إليه وهو تعويض معنوي. والتولية: جعل الشيء والياً، أي لجعلوا ظهورهم تَليكم، أي ارتدوا إلى ورائهم فصُرتم وراءهم. و {ثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وجدان الولي والنصير أشد على المنهزم من انهزامه لأن حين ينهزم قد يكون له أمل بأن يستنصر من ينجده فيكُرّ بِهِ على الذين هزموه فإذا لم يجد ولياً ولا نصيراً تحقق أنه غير منتصر وأصل الكلام لولوا الأدبار وما وجدوا ولياً ولا نصيراً. والولي: المُوالي والصديق، وهو أعم من النصير إذ قد يكون الوَلي غير قادر على إيواء وليه وإسعافه. والسنة: الطريقة والعادة. وانتصب {سنة اللَّه} نِيابة عن المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله لإفادة معنى تأكيد الفعل المحذوف. والمعنى: سن الله ذلك سُنة، أي جعله عادة له ينصر المؤمنين على الكافرين إذا كانت نية المؤمنين نصر دين الله كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 7] وقال: {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40]، أي أنّ الله ضمن النصر للمؤمنين بأن تكون عاقبة حروبهم نصراً وإن كانوا قد يُغلبون في بعض المواقع كما وقع يوم أحد وقد قال تعالى: {والعاقبة للمتقين} [القصص: 83] وقال: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132]. وإنما يكون كمال النصر على حسب ضرورة المؤمنين وعلى حسب الإيمان والتقوى، ولذلك كان هذا الوعد غالباً للرسُول ومن معه فيكون النصر تاماً في حالة الخطر كما كان يوم بدر، ويكون سجالاً في حالة السعة كما في وقعة أحد وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: " اللهم إن تَهلِك هذه العصابة لا تعبَد في الأرض " وقال الله تعالى: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128]، ويكون لمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم من جيوش المسلمين على حسب تمسكهم بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم ففي «صحيح البخاري» عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم " يأتي زمان يغزُو فآمٌ من الناس فيقال: فيكم من صحب النبي؟ فيقال: نعم، فيفتحُ عليه، ثم يأتي زمان فيُقال: فيكم من صحب أصحاب النبي؟ فيقال: نعم فيفتح ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صَحِب من صَاحَبَ النبي؟ فيقال: نعم فيُفتحُ " ومعنى {خلت} مضت وسبقت من أقدم عصور اجتلاد الحق والباطل، والمضاف إليه {قبلُ} محذوف نُوِي معناه دون لفظه، أي ليس في الكلام دال على لفظه ولكن يدل عليه معنى الكلام، فلذلك بُني {قبلُ} على الضم. وفائدة هذا الوصف الدلالة على اطرادها وثباتها. والمعنى: أن ذلك سنة الله مع الرسل قال تعالى: {كتب الله لأغلِبنّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة: 21]. ولما وصف تلك السنة بأنها راسخة فيما مضى أعقب ذلك بوصفها بالتحقق في المستقبل تعميماً للأزمنة بقوله: {ولن تجد لسنة اللَّه تبديلاً} لأن اطراد ذلك النصر في مختلف الأمم والعصور وإخبارَ الله تعالى به على لسان رسله وأنبيائه يدل على أن الله أراد تأييد أحزابه فيعلم أنه لا يستطيع كائن أن يحول دون إرادة الله تعالى.
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} عطف على جملة {وكفّ أيدي الناس عنكم} [الفتح: 20] وهذا كفّ غير الكف المراد من قوله: {وكفَّ أيدي الناس عنكم}. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة التخصيص، أي القصر، أي لم يكفّهم عنكم ولا كفكم عنهم إلا الله تعالى، لا أنتم ولا هم فإنهم كانوا يريدون الشر بكم وأنتم حين أحطتم بهم كنتم تريدون قتلهم أو أسرهم فإن دواعي امتداد أيديهم إليكم وامتداد أيديكم إليهم متوفرة فلولا أن الله قدّر موانع لهم ولكم لاشتبكتم في القتال، فكفَّ أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم وكف أيديكم عنهم حين أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم ويطلقهم. وتقدم الكلام على معنى {كف} في قوله آنفاً {وكف أيديَ الناس عنكم}. والمعنى: أنه لم يترك أحد من الفريقين الاعتداء على الفريق الآخر من تلقاء نفسه ولكن ذلك كان بأسباب أوجدها الله تعالى لإرادته عدم القتال بينهم، وهي منّة ثانية مثل المنة المذكورة في قوله: {وكف أيدي الناس عنكم. وهذه الآية أشارت إلى كف عن القتال يسّره الله رفقاً بالمسلمين وإبقاء على قوتهم في وقت حاجتهم إلى ذلك بعد وقعة بدر ووقعة أحد، واتفق المفسرون الأولون على أن هذا الكف وقع في الحديبية. وهذا يشير إلى ما روي من طرق مختلفة وبعضها في سنن الترمذي وقال: هو حديث صحيح، وفي بعضها زيَادة على بعض أن جمعاً من المشركين يُقدر بستة أو باثني عشر أو بثلاثين أو سبعين أو ثمانين مسلحين نزلوا إلى الحديبية يريدون أن يأخذوا المسلمين على غرة ففطن لهم المسلمون فأخذوهم دون حرب النبي بإطلاقهم وكان ذلك أيام كان السفراء يمشون بين النبي وبين أهل مكة ولعل النبي أطلقهم تجنباً لما يعكر صفو الصلح. وضمائر الغيبة راجعة للذين كفروا في قوله: {ولو قاتلكم الذين كفروا} [الفتح: 22] ووجه عوده إليه مع أن الذين كف الله أيديهم فريق غير الفريق الذي في قوله: {ولو قاتلكم الذين كفروا} هو أن عرف كلام العرب جار على أن ما يصدر من بعض القوم ينسب إلى القوم بدون تمييز كما تقدم في سورة البقرة (63) في قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم} وقوله: ببطن مكة} ظاهر كلام الأساس: أن حقيقة البطن جوف الإنسان والحيوان وأن استعماله في معاني المنخفض من الشيء أو المتوسط مجاز، قال الراغب: ويقال للجهة السفلى بطن، وللعليا ظهر. ويقال: بطن الوادي لوسطه. والمعروف من إطلاق لفظ البطن إذا أضيف إلى المكان أن يراد به وسط المكان كما في قول كعب بن زهير: في فتية من قريش قال قائلهم *** ببطن مكةَ لما أسلموا زُولوا أي في وسط البلد الحرام فإن قائل: زولوا، هو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب، غير أن محمل ذلك في هذه الآية غير بيّن لأنه لا يعرف وقوع اختلاط بين المسلمين والمشركين في وسط مكة يفضي إلى القتال حتى يُمتنّ عليهم بكف أيدي بعضهم عن بعض وكل ما وقع مما قد يفضي إلى القتال فإنما وقع في الحديبيّة. فجمهور المفسّرين حَملوا بطن مكة في الآية على الحديبيّة من إطلاق البطن على أسفل المكان، والحديبيّة قريبة من مكة وهي من الحِل وبعض أرضها من الحرم وهي على الطريق بين مكة وجدة وهي إلى مكة أقرب وتعرف اليوم باسم الشميسي، وجعلوا الآية تشير إلى القصة المذكورة في «جامع الترمذي» وغيره بروايات مختلفة وهي ما قدمناه آنفاً. ومنهم من زاد في تلك القصّة: أن جيش المسلمين اتبعوا العدوّ إلى أن دخلوا بيوت مكة وقتلوا منهم وأسروا فيكون بطن مكة محمولاً على مشهور استعماله، وهذا خبر مضطرب ومناف لظاهر قوله: {كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم}. ومنهم من أبعد المحمل فجعل الآية نازلة في فتح مكة وهذا لا يناسب سياق السورة ويخالف كلام السلف من المفسّرين وهم أعلم بالمقصود، هذا كلّه بناء على أن الباء في قوله: {ببطن مكة} متعلقة بفعل {كف}، أي كان الكف في بطن مكة. ويجوز عندي أن يكون {ببطن مكة} ظرفاً مستقِرّاً هو حال من ضميري {عنكم} و{عنهم} وهو حال مقدرة، أي لو كنتم ببطن مكة، أي لو لم يقع الصلح فدخلتم محاربين كما رغب المسلمون الذين كرهوا الصلح كما تقدم فيكون إطلاق {بطن مكة} جارياً على الاستعمال الشائع، أي في وسط مدينة مكة. ولهذا أوثرت مادة الظفر في قوله: {من بعد أن أظفركم عليهم} دون أن يقال: من بعد أن نصركم عليهم، لأن الظفر هو الفوز بالمطلوب فلا يقتضي وجود قتال فالظفر أعم من النصر، أي من بعد أن أنالكم ما فيه نفعكم وهو هدنة الصلح وأن تعودوا إلى العمرة في العام القابل. ومناسبة تعريف ذلك المكان بهذه الإضافة الإشارة إلى أن جمع المشركين نزلوا من أرض الحرم المكي إذ نزلوا من جبل التنعيم وهو من الحرم وكانوا أنصاراً لأهل مكة. ويتعلّق قوله: {من بعد أن أظفركم عليهم} بفعل {كف} باعتبار تعديته إلى المعطوف على مفعوله، أعني: {وأيديكم عنهم} لأنه هو الكف الذي حصل بعد ظفر المسلمين بفئة المشركين عل حسب تلك الرواية والقرينة ظاهرة من قوله: {من بعد أن أظفركم عليهم}. وهذا إشارة إلى أن كف أيدي بعضهم عن بعض كان للمسلمين إذا مَنُّوا على العدوّ بعد التمكن منه. فعُدي {أظفركم} ب (على) لتضمينه معنى أيَّدَكُم وإلا فحقه أن يعدى بالباء. وجملة {وكان اللَّه بما تعملون بصيراً} تذييل للتي قبلها، والبصير بمعنى العليم بالمرئيّات، أي عليماً بعملكم حين أحطتم بهم وسُقتموهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تظنون أنكم قاتلوهم أو آسروهم. وقرأ الجمهور {تعملون} بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة، أي عليماً بما يعملون من انحدارهم على غرة منكم طامعين أن يتمكنوا من أن يغلبوكم وفي كلتا القراءتين اكتفاء، أي كان الله بما تعملون ويعملون بصيرا، أو بما يعملون وتعملون بصيرا، لأن قوله: {كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} يفيد عملاً لكل فريق، أي علم نواياكم فكفها لحكمة استبقاء قوتكم وحسن سمعتكم بين قبائل العرب وأن لا يجد المشركون ذريعة إلى التظلم منكم بالباطل.
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} {بَصِيراً * هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ}. استئناف انتقل به من مقام الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اكتسبوا بتلك البيعة من رضى الله تعالى وجزائه ثواب الآخرة وخير الدنيا عاجله وآجله، وضمان النصر لهم في قتال المشركين، ومَا هَيَّأ لهم من أسباب النصر إلى تعيير المشركين بالمذمة التي أتوا بها وهي صد المسلمين عن المسجد الحرام وصد الهدْي عن أن يبلغ به إلى أهله، فإنها سبة لهم بين العرب وهم أولى الناس بالحفاوة بمن يعتمرون، وهم يزعمون أنهم أهل حرم الله زواره ومعظّميه، وقد كان من عادتهم قبول كل زائر للكعبة من جميع أهل الأديان، فلا عذر لهم في منع المسلمين ولكنهم حملتهم عليه الحمية. وضمير الغيبة المفتتح به عائد إلى الذين كفروا من قوله: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار} [الفتح: 22] الآية. والمقصود بالافتتاح بضميرهم هنا لاسترعاء السمع لما يرد بعده من الخبر كما إذا جره حديث عن بطل في يوم من أيام العرب ثم قال قائل عثرة هو البطن المحامي. والمقصود من الصلة هو جملة {صدوكم عن المسجد الحرام} وذكر {الذين كفروا} إدماج للنداء عليهم بوصف الكفر ولهذا الإدماج نكتة أيضاً، وهي أن وصف الذين كفروا بمنزلة الجنس صار الموصول في قوة المعرف بلام الجنس فتفيد جملة {هم الذين كفروا} قصر جنس الكفر على هذا الضمير لقصد المبالغة لكمالهم في الكفر بصدهم المعتمرين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ محله. والهديُ: ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام، وهو من التسمية باسم المصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع كحكم المصدر قال تعالى: {والهَدْي والقلائد} [المائدة: 97] أي الأنعام المهدية وقلائدها وهو هنا الجمع. والمعكوفُ: اسم مفعول عَكَفه، إذ ألزمَه المكث في مكان، يقال: عكفه فعكَف فيستعمل قاصراً ومتعدياً عن ابن سِيده وغيره كما يقال: رجَعه فرجَع وجَبره فجَبر. وقال أبو علي الفارسي: لا أعرف عكف متعدياً، وتأول صيغة المفعول في قوله تعالى: {معكوفاً} على أنها لتضمين عكَف معنى حبس. وفائدة ذكر هذا الحال التشنيع على الذين كفروا في صدهم المسلمين عن البيت بأنهم صدوا الهدايا أن تبلغ محلها حيث اضطّر المسلمون أن ينحروا هداياهم في الحديبية فقد عطلوا بفعلهم ذلك شعيرة من شعائر الله، ففي ذكر الحال تصوير لهيئة الهدايا وهي محبوسة. ومعنى صدهم الهدي: أنهم صدوا أهل الهدي عن الوصول إلى المنحر من منى. وليس المراد: أنهم صدوا الهدايا مباشرة لأنه لم ينقل أن المسلمين عرضوا على المشركين تخلية من يذهب بهداياهم إلى مكة لِتُنحر بها. وقوله: {أن يبلغ محله} أن يكون بدل اشتمال من {الهدي} ويجوز أن يكون معمولاً لِحرف جر محذوف وهو (عن)، أي عن أن يبلغ محله. والمحِلّ بكسر الحاء: محلّ الحِل مشتق من فعل حَلّ ضد حرُم، أي المكان الذي يحِلّ فيه نحر الهدي، وهو الذي لا يُجزئ غيره، وذلك بمكة بالمروة بالنسبة للمعتمر، ولذلك لما أُحصروا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا هديهم في مكانهم إذ تعذر إبلاغه إلى مكة لأن المشركين منعوهم من ذلك. ولم يثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بتوخّي جهة معينة للنحر من أرض الحديبية، وذلك من سماحة الدين فلا طائل من وراء الخوض في اشتراط النحر في أرض الحرم للمحصرَ. {مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً}. أتبع النعي على المشركين سُوءَ فعلهم من الكفر والصد عن المسجد الحرام وتعطيل شعائر الله وَعْدَهُ المسلمين بفتح قريب ومغانم كثيرة، بما يدفع غرور المشركين بقوتهم، ويسكن تطلع المسلمين لتعجيل الفتح، فبيّن أن الله كف أيدي المسلمين عن المشركين مع ما قرره آنفاً من قوله: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً} [الفتح: 22] أنه إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لمّا صدوهم عن البيت لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يَعلمونهم، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب من جراء إتلاف إخوانهم، فالجملة معطوفة على جملة {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار} أو على جملة {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} [الفتح: 24] الخ. وأيًّا مَّا كان فهي كلام معترض بين جملة {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام} الخ وبين جملة {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية} [الفتح: 26]. ونظم هذه الآية بديع في أسلوبي الإطناب والإيجاز والتفنن في الانتقال ورشاقة كلماته. و {لولا} دالة على امتناععٍ لوجودٍ، أي امتنع تعذيبُنا الكافرين لأجل وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات بينهم. وما بعد {لولا} مبتدأ وخبره محذوف على الطريقة المستعملة في حذفه مع {لولا} إذا كان تعليق امتناع جوابها على وجود شرطها وجوداً مطلقاً غير مقيد بحال، فالتقدير: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات موجودون، كما يدل عليه قوله بعده {لو تزيَّلوا}، أي لو لم يكونوا موجودين بينهم، أي أن وجود هؤلاء هو الذي لأجله امتنع حصول مضمون جواب {لولا}. وإجراء الوصف على رجال ونساء بالإيمان مشير إلى أن وجودهم المانع من حصول مضمون الجواب هو الوجود الموصوف بإيمان أصحابه، ولكن الامتناع ليس معلقاً على وجود الإيمان بل على وجود ذوات المؤمنين والمؤمنات بينهم. وكذلك قوله: {لم تعلموهم} ليس هو خبراً بل وصفاً ثانياً إذ ليس محط الفائدة. ووجه عطف {نساء مؤمنات} مع أن وجود {رجال مؤمنون} كاف في ربط امتناع الجواب بالشرط ومع التمكن من أن يقول: ولولا المؤمنُون، فإن جمع المذكر في اصطلاح القرآن يتناول النساء غالباً، أن تخصيص النساء بالذكر أنسب بمعنى انتفاء المعرة بقتلهن وبمعنى تعلق رحمة الله بهن. ومعنى {لم تعلموهم} لم تعملوا إيمانهم إذ كانوا قد آمنوا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً. فعن جُنْبُذٍ بجيم مضمومة ونون ساكنة وموحدة مضمومة وذال معجمة بن سَبُع بسين مهملة مفتوحة وموحدة مضمومة، ويقال: سِباع بكسر السين يقال: إنه أنصاري، ويقال: قاري صاحبي قال: هم سبعة رجال سمي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة وأبو جندل بن سُهيل وأبو بَصِير القرشي ولم أقف على اسم السابع وعُدَّتْ أمّ الفضل زوجُ العباس بن عبد المطلب، وأحسب أن ثانيتهما أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط التي لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة. وعن حَجَر بن خلف: ثلاثة رجال وتسع نسوة، ولفظ الآية يقتضي أن النساء أكثر من اثنتين. والظاهر أن المراد بقوله: {لم تعلموهم} ما يشمل معنى نفي معرفة أشخاصهم ومعنى نفي العلم بما في قلوبهم، فيفيد الأول أنهم لا يعلمهم كثير منكم ممن كان في الحديبيّة من أهل المدينة ومن معهم من الأعراب فهم لا يعرفون أشخاصهم فلا يعرفون من كان منهم مؤمناً إن كان يعرفهم المهاجرون، ويفيد الثاني أنهم لا يعلمون ما في قلوبهم من الإيمان أو ما أحدثوه بعد مفارقتهم من الإيمان، أي لا يعلم ذلك كله الجيش من المهاجرين والأنصار. و {أن تطأوهم} بدل اشتمال من {رجال} ومعطوفه، أو من الضمير المنصوب في {لم تعلموهم} أي لولا أن تطئوهم. والوطء: الدوس بالرِجل، ويستعار للإبادة والإهلاك، وقد جمعهما الحارث بن وعْلَة الذُهلي في قوله: ووطِئْتَنا وَطْأَ على حَنَق *** وَطْءَ المقيَّدِ نَابتَ الهِرْم والإصابة: لحاق ما يصيب. و (مِن) في قوله: {منهم} للابتداء المجازي الراجع إلى معنى التسبب، أي فتلحقكم من جرائهم ومن أجلهم مَعرة كنتم تتقون لحاقها لو كنتم تعلمونهم. والمعرة: مصدر ميمي من عَرّه، إذا دهاه، أي أصابه بما يكرهه ويشق عليه من ضر أو غرم أو سوء قالة، فهي هنا تجمع ما يلحقهم إذا ألحقوا أضراراً بالمسلمين من دِيَاتتِ قتْلَى، وغُرم أضرار، ومن إثم يلحق القاتلين إذا لم يتثبَّتوا فيمن يقتلونه، ومن سوء قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضرهم لِيُكَرِّهُوا العرب في الإسلام وأهله. والباء في {بغير علم} للملابسة، أي ملابسين لانتفاء العلم. والمجرور بها متعلق ب {تصيبكم}، أي فتلحقكم من جرّائهم مَكاره لا تعلمونها حتى تَقعوا فيها. وهذا نفي علم آخر غير العلم المنفي في قوله: {لم تعلموهم} لأن العلم المنفي في قوله: {لم تعلموهم} هو العلم بأنهم مؤمنون بالذي انتفاؤه سبب إهلاك غير المعلومين الذي تسبب عليه لحاق المعرة. والعلم المنفي ثانياً في قوله: {بغير علم} هو العلم بلحاق المعرة من وطأتهم التابع لعدم العلم بإيمان القوم المهلَكين وهو العلم الذي انتفاؤه يكون سبباً في الإقدام على إهلاكهم. واللام في قوله: {ليدخل اللَّه في رحمته من يشاء} للتعليل والمعلل واقع لا مفروض، فهو وجود شرط {لولا} الذي تسبب عليه امتناع جوابها فالمعلل هو ربط الجواب بالشرط، أي لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لعذبنا الذين كفروا وأن هذا الربط لأجل رحمة الله من يشاء من عباده إذ رحم بهذا الامتناع جيش المسلمين بأن سلمهم من معرة تلحقهم وأن أبقى لهم قوتهم في النفوس والعدة إلى أمد معلوم، ورحم المؤمنين والمؤمنات بنجاتهم من الإهلاك، ورحم المشركين بأن استبقاهم لعلهم يسلمون أو يسلم أكثرهم كما حصل بعد فتح مكة، ورحم من أسلموا منهم بعد ذلك بثواب الآخرة، فالرحمة هنا شاملة لرحمة الدنيا ورحمة الآخرة. و {من يشاء} يعمّ كل من أراد الله من هذه الحالة رحمته في الدنيا والآخرة أو فيهما معاً. وعبر ب {من يشاء} لما فيه من شمول أصناف كثيرة ولما فيه من الإيجاز ولما فيه من الإشارة إلى الحكمة التي اقتضت مشيئة الله رحمة أولئك. وجواب {لولا} يجوز اعتباره محذوفاً دل عليه جواب {لو} المعطوفة على {لولا} في قوله: {لو تزيلوا}، ويجوز اعتبار جواب {لو} مرتبطاً على وجه تشبيه التنازع بين شرطي {لولا} و{لو} لمرجع الشرطين إلى معنى واحد وهو الامتناع فإن {لولا} حرف امتناع لوجود أي تدلّ على امتناع جوابها لوجود شرطها. و{لو} حرف امتناع لامتناع، أي تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها فحكم جوابيهما واحد، وهو الامتناع، وإنما يَختلف شرطاهما فشرط {لو} منتف وشرط {لولا} مثبت. وضمير {تزيلوا} عائد إلى ما دل عليه قوله: {ولولا رجال مؤمنون} الخ من جمع مختلط فيه المؤمنون والمؤمنات مع المشركين كما دل عليه قوله: {لم تعلموهم}. والتزيَّل: مطاوع زيَّله إذا أبعده عن مكان، وزيلهم، أي أبعد بعضهم عن بعض، أي فرقهم قال تعالى: {فزيلنا بينهم} [يونس: 28] وهو هنا بمعنى التفرق والتميز من غير مراعاة مطاوعة لفعل فاعل لأن أفعال المطاوعة كثيراً ما تطلق لإرادة المبالغة لدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى وذلك أصل من أصول اللغة. والمعنى: لو تفرق المؤمنون والمؤمنات عن أهل الشرك لسلَّطنْا المسلمين على المشركين فعذّبوا الذين كفروا عذاب السيف. فإسناد التعذيب إلى الله تعالى لأنه يأمر به ويقدر النصر للمسلمين كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبْهم بأيديكم} في سورة براءة (14). و (مِن) في قوله: منهم} للتبعيض، أي لعذبنا الذين كفروا من ذلك الجمع المتفرق المتميز مؤمنهم عن كافرهم، أي حين يصير الجمع مشركين خلّصا وحدهم. وجملة {لو تزيلوا} إلى آخرها بيان لجملة {ولولا رجال مؤمنون} إلى آخرها، أي لولا وجود رجال مؤمنين الخ مندمجين في جماعة المشركين غير مفترقين لو افترقوا لعذبنا الكافرين منهم. وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله: {لعذبنا الذين كفروا} على طريقة الالتفات.
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)} ظرف متعلق بفعل {صدوكم} [الفتح: 25] أي صدوكم صدًّا لا عذر لهم فيه ولا داعي إليه إلا حميةَ الجاهلية، وإلا فإن المؤمنين جاءوا مسالمين معظمين حُرمة الكعبة سائقين الهدايا لنفع أهل الحرم فليس من الرشد أن يمنعوا عن العمرة ولكن حمية الجاهلية غطّت على عقولهم فصمّموا على منع المسلمين، ثم آل النزاع بين الطائفتين إلى المصالحة على أن يرجع المسلمون هذا العام وعلى أن المشركين يمكنوهم من العمرة في القابل وأن العامين سواء عندهم ولكنهم أرادوا التشفي لما في قلوبهم من الإحن على المسلمين. فكان تعليق هذا الظرف بفعل {وصدوكم} مشعراً بتعليل الصَّد بكونه حمية الجاهلية ليفيد أن الحمية مُتَمَكنة منهم تظهر منها آثارها فمنها الصد عن المسجد الحرام. والحمية: الأنفة، أي الاستنكاف من أمرٍ لأنه يراه غضاضة عليه وأكثر إطلاق ذلك على استكبار لا موجب له فإن كان لموجب فهو إباء الضيم. ولما كان صدهم الناس عن زيارة البيت بلا حق لأن البيت بيت الله لا بيتهم كان داعي المنع مجرد الحمية قال تعالى: {وما كانوا أولياءه} [الأنفال: 34]. و{جعل} بمعنى وضع، كقول الحريري في المقامة الأخيرة «اجعل الموت نصب عينك»، وقول الشاعر: وإثمد يجعل في العين *** وضمير {جعل} يجوز أن يكون عائداً إلى اسم الجلالة في قوله: {ليدخل الله في رحمته} [الفتح: 25] من قوله: {لعذبنا الذين كفروا} [الفتح: 25] والعدول عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة التفات. و {الذين كفروا} مفعول أول ل {جعل}. و{الحمية} بدل اشتمال من {الذين كفروا}، و{في قلوبهم} في محل المفعول الثاني ل {جعل}، أي تخلّقُوا بالحمية فهي دافعة بهم إلى أفعالهم لا يراعون مصلحة ولا مفسدة فكذلك حين صدّوكم عن المسجد الحرام. و {في قلوبهم} متعلق ب {جعل}، أي وضع الحمية في قلوبهم. وقوله: {حمية الجاهلية} عطف بيان للحمية قُصد من إجماله ثم تفصيله تقريرُ مدلوله وتأكيده مَا يحصل لو قال: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم حميةَ الجاهلية}. وإضافة الحمية إلى الجاهلية لقصد تحقيرها وتشنيعها فإنها من خلق أهل الجاهلية فإن ذلك انتساب ذم في اصطلاح القرآن كقوله: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} [آل عمران: 154] وقوله: {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50]. ويعكس ذلك إضافة السكينة إلى ضمير الله تعالى إضافة تشريف لأن السكينة من الأخلاق الفاضلة فهي موهبة إلهاية. وتفريع {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين}، على {إذ جعل الذين كفروا}، يؤذن بأن المؤمنين ودُّوا أن يقاتلوا المشركين وأن يدخُلوا مكة للعمرة عنوة غضباً من صدّهم عنها ولكن الله أنزل عليهم السكينة. والمراد بالسكينة: الثبات والأناة، أي جعل في قلوبهم التأنّي وصرف عنهم العجْلة، فعصمهم من مقابلة الحَمِية بالغضب والانتقاممِ فقابلوا الحمية بالتعقل والتثبت فكان في ذلك خير كثير. وفي هذه الآية من النكت المعنوية مقابلة {جعل} ب {أنزل} في قوله: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية} وقوله: {فأنزل الله سكينته} فدلّ على شرف السكينة على الحمية لأن الإنزال تخييل للرفعة وإضافة الحمية إلى الجاهلية، وإضافة السكينة إلى اسم ذاته. وعُطف على إنزال الله سكينته {ألزمهم كلمة التقوى} [الفتح: 26]، أي جعل كلمة التقوى لازمة لهم لا يفارقونها، أي قرن بينهم وبين كلمة التقوى ليكون ذلك مقابلَ قوله: {وصدوكم عن المسجد الحرام} [الفتح: 25] فإنه لما ربط صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بالظرف في قوله: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية الجاهلية} رَبْطاً يفيد التعليل كما قدمناه آنفاً رَبَطَ ملازمة المسلمين كلمة التقوى بإنزال السكينة في قلوبهم، ليكون إنزال السكينة في قلوبهم، وهو أمر باطني، مؤثراً فيهم عملاً ظاهرياً وهو ملازمتهم كلمة التقوى كما كانت حمية الجاهلية هي التي دفعت الذين كفروا إلى صد المسلمين عن المسجد الحرام. وضمير النصب في {وألزمهم} عائد إلى {المؤمنين} لأنهم هم الذين عوّض الله غضبهم بالسكينة ولم يكن رسول الله مفارقاً السكينة من قبل. و {كلمة التقوى} إن حملت على ظاهرِ معنى {كلمة} كانت من قبيل الألفاظ وإطلاق الكلمة على الكلام شائع، قال تعالى: {إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100] ففسرت الكلمة هنا بأنها قول: لا إله إلا الله. وروي هذا عن أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي، وقال: هو حديث غريب. قلت: في سنده: ثوير، ويقال: ثور بن أبي فاختة قال فيه الدارقطني: هو متروك، وقال أبو حاتم: هو ضعيف. وروى ابن مردوية عن أبي هريرة وسلمةَ بن الأكوع مثله مرفوعاً وكلها ضعيفة الأسانيد. وروي تفسيرها بذلك عند عدد كثير من الصحابة ومعنى إلزامه إياهم كلمة التقوى: أنه قدَّر لهم الثبات عليها قولاً بلفظها وعملاً بمدلولها إذ فائدة الكلام حصول معناه، فإطلاق (الكلمة) هنا كإطلاقه في قوله تعالى: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} [الزخرف: 28] يعني بها قول إبراهيم لأبيه وقومه {إنني بَراء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} [الزخرف: 26، 27]. وإضافة {كلمة} إلى {التقوى} على هذا التفسير إضافة حقيقية. ومعنى إضافتها: أن كلمة الشهادة أصل التقوى فإن أساس التقوى اجتناب عبادة الأصنام، ثم تتفرع على ذلك شعب التقوى كلها. ورويت أقوال أخرى في تفسير {كلمة التقوى} بمعنى كلام آخر من الكلم الطيب وهي تفاسير لا تلائم سياق الكلام ولا نظمه. ويجوز أن تحتمل {كلمة} على غير ظاهر معناها فتكون مقحمة وتكون إضافتها إلى التقوى إضافة بيانية، أي كلمة هي التقوى، ويكون المعنى: وألزمهم التقوى على حد إقحام لفظ اسم في قول لبيد: إلى الحول ثم اسمُ السلام عليكما ومنه قوله تعالى: {تبارك اسمُ ربك} [الرحمن: 78] على أحد التفسيرين فيه. ويدخل في التقوى ابتداءً توحيدُ الله تعالى. ويجوز أن يكون لفظ {كلمة} مطلقاً على حقيقة الشيء. وجُماع معناه كإطلاق الاسم في قول النابغة: نبئت زرعة والسفاهة كاسمِها *** يُهدي إلى غرائب الأشعار ويؤيد هذا الوجه ما نقل عن مجاهد أنه قال: كلمة التقوى: الإخلاص. فجعل (الكلمة) معنى من التقوى. فالمعنى على هذين التوجهين الأخيرين: أنهم تخلقوا بالتقوى لا يفارقونها فاستعير الإلزام لدوام المقارنة. وهذان الوجهان لا يعارضان تفسير كلمة (التقوى) بكلمة (الشهادة) المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يكون ذلك تفسيراً بجزئي من التقوى هو أهمّ جزئياتها، أي تفسير مثال. وعن الحسن: أن كلمة {التقوى} الوفاء بالعهد، فيكون الإلزام على هذا بمعنى الإيجاب، أي أمرهم بأن يفوا بما عاهدوا عليه للمشركين ولا ينقضوا عهدهم، فلذلك لم ينقض المسلمون العهد حتى كان المشركون هم الذين ابتدأوا بنقضه. والواو في {وكانوا أحق بها} واو الحال، والجملة حال من الضمير المنصوب، أي ألزمهم تلك الكلمة في حال كانوا فيه أحق بها وأهلها ممن لم يلزموها وهم الذين لم يقبلوا التوحيد على نحو قوله تعالى: {وإن كانت لكبيرة إلاّ على الذين هدى الله} [البقرة: 143]. وجيء بفعل كانوا لدلالتها على أن هذه الأحقية راسخة فيهم حاصلة في الزمن الماضي، أي في قدر الله تعالى. والمعنى: أن نفوس المؤمنين كانت متهيئة لقبول كلمة التقوى والتزامها بما أرشدها الله إليه. والمفضل عليه مقدر دلّ عليه ما تقدم، أي أحق بها من الذين كفروا والذين جعل الله في قلوبهم الحمية لأن الله قدّر لهم الاستعداد للإيمان دون الذين أصروا على الكفر. وأهل الشيء مستحقُه، والمعنى أنهم كانوا أهل كلمة التقوى لأنها تناسب ضمائرهم وما انطوت عليه قلوبهم. وهذه الأهلية مثل الأحقية متفاوتة في الناس وكلما اهتدى أحد من المشركين إلى الإسلام دلّ اهتداؤه على أنه حصلت له هذه الأهلية للإسلام. وجملة {وكان اللَّه بكل شيء عليماً} تذييل، أي وسبق في علم الله ذلك في عموم ما أحاط به علم الله من الأشياء مجرى تكوينه على نحو علمه.
|